أحدثت ثورة الاتصالات والمعلومات قطيعة كبرى بين الشخص وبيته، وعززت انتماء الإنسان إلى أكثر من مكان في وقت واحد، وعندما حل فايروس كورونا المستجد (كوفيد-19) وجاءت التعليمات المحذرة من مغادرة المنزل والاختلاط بالآخرين، تخلى أسرى العادات اضطراراً عن برنامجهم المرتبط بفضاء خارج فضاء الأسرة، واستعاضوا عن قطع الفيافي والجبال بحثاً عن شلة الأنس بأحضان العائلة مرددين مع سيّد البيد الشاعر محمد الثبيتي (مَرْحَباً سَيَّدَ البِيدِ..إنَّا انْتَظَرْنَاكَ حَتَّى صَحَونَا عَلَى وقْعِ نَعْلَيكَ، حِينَ اسْتَكَانَتْ لِخُطْوَتِكَ الطُّرُقَاتُ وألْقَتْ عليكَ النوافذُ دفءَ البيوت).
ويؤكد التربوي خالد حمدان أن ما فرضته أزمة كورونا من واقع اجتماعي جديد ولّد مشاعر متجددة مع الجو العائلي، مشيراً إلى إيجابية عودة الأزواج والزوجات والأبناء والبنات لحضن العاطفة الحميمة، موضحاً أنه عاد للحديقة المنزلية للتعرف على الأشجار وسقيها، وتفقد المكتبة وترتيبها، والدخول للمطبخ لإعداد وجبات خفيفة وصنع الشاي والقهوة، ومشاركة الأطفال في بعض الألعاب، مؤكداً أن دفء البيوت لا يقارن بشتاء البراري، إلا أنه أبدى تحفظاً على انشغال بعض أفراد العائلة بأجهزة الجوال حتى أنك تشعر بالاتصال والانفصال في وقت واحد، متطلعاً لتبني العائلات قراراً بإبعادها وقت اجتماعهم وتوظيف ساعات الجمعة العائلية في الحديث المفيد والحوار الثقافي وتعزيز الصلة بالمعاني السامية لبناء أسرة والحفاظ عليها من توغل التقنية المشتتة للمجموعات والعائلات.
ويرى الاستشاري النفسي الدكتور علي صحفان أن الأزمة أعادت الحميمية واللمة الأسرية بدءاً من الأب الذي عاد لممارسة دوره الفعلي من خلال تفقد حاجات الأسرة، مروراً باللعب مع الأطفال ومراجعة دروس الأبناء، والالتصاق بهم، وضخ جرعة من الحنان لأبنائه وبناته بالضم والضحك والدعابة.
وأضاف: حدثني صديق وقال «لأول مرة أحدق في ملامح أبنائي وأدقق في تفاصيل وجوههم!» مشيرا إلى الأثر العاطفي الإيجابي بتسلله لحياة أولاده ومقاسمة الأم العاطفة، وتحفظ على أن يكون دور معشر الآباء محصورا في الكد والاجتهاد في سبيل توفير لقمة العيش ظناً أن هذا يكفي بينما تتفوق الأمهات (بأخذ الحب كله) لأنها ملتصقة بأولادها.
وتابع «يكمن السر في الوجود بالبيت والقرب من الأبناء والبنات، ما يقطع حبل العقوق الذي يشتكي منه كثيرون»، وشدد على ضرورة الاستفادة من هذه الجائحة والخروج منها بدروس للعظة والعبرة؛ كون بعض الأبناء والبنات سعداء بالأزمة كونها جمعت شملهم بوالديهم على مدار الساعة.
من جانبه، تحفظ الناقد الدكتور أحمد بن صالح السعدي على من يشبه صورة البقاء في البيت بصورة السجن والأَسْر كما هي متداولة في بعض وسائل التواصل الاجتماعي، فيما الخروج والغياب عنه حرية وانفكاك وسعادة.
وعدها صورة مصنوعة أو منقولة بالعادة، إلا أن أثرها في التصور المسؤول عن السلوك خطير على الأسرة وعلاقات أفرادها، بتحولها إلى غربة واغتراب كما عبر عنها الشاعر الشعبي الجميل علي عسيري في قصديته «المدينة» التي شدا بها راشد الفارس.
واستطرد: «ربما تأتي أزمة كورونا لتكون إنقاذا لصورة الأسرة والبيت وتمنح الأفراد فرصة للمراجعة والتغيير، لعلهم يجعلون منها مرادفا للوطن والقرية».